يقول الله تعالى: ((
وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ))[المائدة:14].
فالدين شامل كامل، فيه الوعد والوعيد، وفيه الأحكام والآداب، وفيه تحريك العقل والوجدان، وفيه القوة والرحمة.
فإذا أخذت طائفة بالوعد وتركت الوعيد، وعكست الأخرى فأخذت بالوعيد ونسيت الوعد، فلا بد أن تقع العداوة والبغضاء والفرقة.
وكذلك: إذا أخذت طائفة بالآداب دون الأحكام، أو بالزهد دون العمل والجهاد. وواقع الفرق يشهد لهذا بوضوح:
1- فـ
الخوارج تمسكوا بنصوص الوعيد فقط، حتى نفوا الإيمان عن مرتكب الكبيرة، وأنكروا الشفاعة، وضيقوا رحمة الله الواسعة.
و
المرجئة تمسكوا بنصوص الوعد فقط، فقالوا: إن الإنسان مهما ارتكب من الكبائر دون الشرك فإن إيمانه كامل.
2- و
الشيعة أخذوا بفضائل
علي رضي الله عنه، وجحدوا فضائل
أبي بكر و
عمر و
عثمان رضي الله عنهم؛ حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تأليه
علي وتكفير الثلاثة، و
الخوارج قالوا: إن
علياً كافر.
3- والمتكلمون يقولون: إن الإسلام دين العقل والفهم، وهذا حق، ولكنهم غلوا في تقدير قيمة العقل حتى حكموه في نصوص الوحي، وأنكروا الكرامات، والسحر، وعذاب القبر، والميزان والصراط، وما أشبهها من الغيبيات؛ لأنها تخالف العقل -بزعمهم- على خلاف بينهم في بعض ذلك.
و
الصوفية قابلوا المتكلمين بالعكس، فأنكروا قيمة العقل والفكر، وآمنوا بالخيالات والخرافات والأحلام، وسموها مكاشفات وكرامات وحقائق.
4- و
القدرية أخذوا بالنصوص التي تثبت مشيئة العبد وإرادته ومسئوليته عما يفعل -وهذا حق- ولكنهم أنكروا القدر، وما دل عليه من النصوص.
وقابلتهم
الجبرية بالعكس، فأثبتوا القدر، وغلوا في ذلك، حتى جعلوا الإنسان مجبوراً على كل ما يفعل، وأنكروا النصوص التي أخذ بها
القدرية .
5- و
الممثلة و
المشبهة أخذوا من النصوص ما يدل على إثبات الصفات فقط، وتركوا ما يدل على أنها ليست كصفات المخلوقين.
و
المعطلة -نفاة الصفات- قبلوا النصوص الدالة على أن الله لا يماثله شيء من خلقه، وتركوا النصوص الدالة على إثبات الصفات، فأنكروا صفات الله تعالى بحجة التنزيه.
6- ومثل ذلك من واقع الحياة الإسلامية:
أن طائفة من العلماء والقضاة توسعوا في متاع الحياة الدنيا، فقابلتهم طائفة من الزهاد والعباد حاربوا الحلال والطيبات.
وفي مجال العلم اتجهت طائفة إلى النقل وحده، واشتغلوا بجمع المأثور، حتى جمعوا الضعاف والموضوعات والحكايات الباطلة.
وقابلتهم طائفة فاتجهت إلى الفهم والاستنباط وحده، فجهلوا كثيراً من الصحاح، أو ردُّوها.
وفي مجال الدعوة؛ قامت طائفة تدعو إلى الجهاد والقوة، وأخرى تدعو إلى الأخلاق والآداب، وثالثة إلى العلم والبحث مع إهمال بقية الجوانب، فوقع التنازع والخلاف.
هذا، ولو أن المسلمين تمسكوا بالكتاب كله، واقتدوا بما كان عليه الجيل الأول؛ من فهم كامل وتوازن شامل لما وقع هذا الخلاف أو كثير منه، وهذا ما تدعو إليه
الطائفة المنصورة الناجية أهل السنة والجماعة.